النسيان كطريقة جديدة لإقامة العلاقات

لا أود الخوض في غمار موضوع النسيان بالمعنى السلبي، ولا أود الولوج إلى أعمق مخاوفي والإفصاح عنها، فأنا في أجواء كتابة فرائحية تسترعي مني كل طاقتي الإيجابية، فسأكتب عن معاناتي مع النسيان، ولو كان ذلك قد ينتهي بالشعور بالشفقة أو الحزن، إلا أنني سأحاول الإفصاح عن إيجابيات النسيان التي أغدقها علي، وأولها شلة أصدقاء جديدة. 

انتقلت بعد انتهائي من المرحلة المتوسطة إلى مدرسة ثانوية جديدة، وقد كانت مدرستي القديمة مجمعًا يحوي المرحلة المتوسطة والثانوية معًا، فلم أكن بحاجة لتغيير مدرستي، ولن يكون تخرجي من المتوسطة سوى تغيير فصلي من الدور العلوي و النزول للدور السفلي الذي يحوي على صفوف المرحلة الثانوية. إلا أنني قررت الانتقال لمدرسة ثانوية جديدة؛ بسبب رغبتي للدراسة في نظام المقررات آنذاك، وترك مدرستي القديمة كانت تتخذ المسار الفصلي. وبقراري هذا، أترك كل صديقاتي ومعلماتي وأنتقل لمدرسة جديدة وحدي، وكانت تلك أول مرة أنتقل فيها من مدرسة لأخرى. شعور الانتقال لمدرسة جديدة رائع ومثير، وكم كنت شجاعة لاتخاذ قرار كذاك، لأنني كنت الوحيدة التي كان بيدها القرار، فوالداي أخبراني أن الموضوع أوله وآخره يقع على عاتقي ورغبتي، فلم يتدخلا أبدًا بصنع ذلك القرار، ولا حتى بنصيحة. وصديقاتي كذلك، حاولن إقناعي أن أبقى معهن لكنهن لم يجبرنني أبدًا. وبذلك انتقلت لمدرسة جديدة، بدون شلة، وبدون أي قوة سوى قوة النسيان. 

لم يمضي الأسبوع الأول إلا بمعرفتي لكل بنات المدرسة، ولكن بدون أسماء بالتأكيد. أعرف أن الطالبة في المرحلة الفلانية وفي الصف الفلاني وصديقاتها هن فلانة وفلانة، لكنني لا أعرف اسمها. وظللت خلال الأسبوع الأول كاملًا أبحث عن مكان فصلي، فكل صباح أدخل فصلًا جديدًا، حتى اهتدي لطريق فصلي الذي حضرت فيه بالأمس سبع ساعات. وبفصلي ذاك انضممت لمجموعة من الطالبات، وأصبحنا قريبات بسرعة شديدة، حتى أن المعلمات يستغربن أننا لم نعرف بعضنا إلا هذه السنة. ولكن النسيان لم يستسلم عن التدخل في حياتي، وإن تغاضى عن حفظي لأسماء صديقاتي، فلن يتغاضى عن حفظي لأسماء عائلاتهن. فكنت أحفظ أسماء صديقاتي، لكنني لا أعرف أسماء أباءهن أو عائلاتهن، وهذا ما يصيب والدي بالجنون، لأنه يحمل فضولًا متفجرًا لمعرفة الأسر الجديدة التي سأعرّفها على عائلتنا، وما إذا كن صديقاتي الجديدات بنات لأصدقاءه الموزعين في كل مكان. وأثناء قيامنا لمشروع لإحدى المواد، تطوعت لتصميم البحث وإعداده وتقديمه بشكله نهائي. وفي يوم تسليم المشروع، تكتشف صديقتي التي كنت أعتبرها توأم روحي الضائع أنني كتبت اسم عائلتها بشكل خاطئ، ولم يكن خطأ إملائيًا بل أعطيتها عائلة جديدة. لم تسمح لي بتقديم المشروع ذلك اليوم، وطلبت هي من الأستاذة أن نقدم مشروعنا في اليوم الذي يليه لخطأ مطبعي لا نقدر على التغاضي عنه. إلا أنني في اليوم الذي يليه بدلت اسم العائلة إلى اسم خاطئ آخر، مما جعلها تنفجر غضبًا علي، ولم ينفع أي عذر أخبرتها به. ولا أزال أتذكر وجهها حتى هذه اللحظة، حواجبها منعقدة وتصرخ في وجهي بشدة، بينما كنت أضحك لأنني لم أستوعب أن خطأ كهذا قد يستوجب رد فعل كذاك. وهذا ما زاد الطين بلّه، فأنا أرى الموقف مضحك بينما تراه إساءة. أخبرتها بأنني سأعيد تنفيذ المشروع للمرة الثالثة، وبعد تهديد ووعيد أعطتني الثقة وانتظرت التعديل، وعدلته في اليوم الثالث، لكنني لم أستلم بعدها أي تنفيذ وطباعة لأي مشروع في تلك السنة، وفي السنوات التي تليها كنت أكتب أسماءنا جميعًا على ورقة وآخذها معي للمنزل خوفًا من نسياني لها، من نسياني لأسماء صديقاتي. ولم تستمر تلك الشلة للأسف، قد يكون نسياني لأسماءهن السبب الأكبر لذلك، لكنني أتمنى ألا يكون. وإن كان النسيان هو سبب ذلك، فأنا ممتنة له لأنني شددت رحالي وحملت نسياني معي لشلة جديدة، وما زلنا معًا حتى كتابة هذه السطور.

استمرت معي حالة النسيان هذه حتى الجامعة، وكانت لدي دكتورتان، لا تتشابهان في شيء البتة، لكنني أخلط بين اسميهما بشكل دائم، حتى بعد تخرجي، وهما الدكتورة إيمان والدكتورة أماني. لكل واحدة أسلوب في التدريس، الأولى تراني نائمة على الكرسي في منتصف المحاضرة فلا توقظني أبدًا. ونبهتها أنها زادتني درجة لا أستحقها في اختبار، وأعطتني إياها مكافأة لي على صدقي. بينما الثانية لا أنام في محاضرتها أبدًا خوفًا من أن تفوتني البسملة وتدخل في الاختبار، وأخبرتها بزيادة درجة في اختبار حصلت عليها بالخطأ فشكرتني على صدقي وأزالتها. إلا أنني لا أستطيع تثبيت أسماءهن على وجوههن، وكنت دائمًا أجلب انخفاض الضغط والمفاجأة والغضب لكل طالبات الشعبة بتبديلي بين أسماءهن فأقول:”حليتوا واجب أماني؟” فيجبن البنات بشهقة أولًا ثم بصوت حاد:”أماني معطتنا واجب؟” وأرد على ذلك بأنني أقصد واجب المادة الفلانية، فيغفرن لي زلتي بذكر اسم المادة، فعلى الأقل شيء واحد صحيح. وكنت أوافق على أي انتقاد يقلنه زميلات الشعبة، لأنني لا أعلم أي دكتورة يتحدثن عنها، فأوافق لأمرر مجريات الحوار لموضوع آخر لا يفتضح نقطة ضعفي. وبذلك كسبت علاقات جديدة مبنية على الثقة المتبادلة والرأي المتوافق بالنسبة إلى الدكتورات. 

ولا أنسى تواريخ الاختبارات التي دائمًا ما أحفظها بشكل خاطئ، إلا أنني أعتبر تلك إيجابية، فكل التواريخ أحفظها بشكل خاطئ أبكر من وقتها الحقيقي. وبهذا أكون قد انهيت مذاكرتي كاملة قبل الاختبار باسبوع أحيانًا، وأحل الواجب قبل تسليمه بأيام. 

وحتى أجد حلًا ورسمًا شجريًا بآخر تحديث لعائلة زوجي لأستطيع حفظها قبل الزواج، إلى اللقاء يا أصدقاء. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Scroll to Top